المصريون.. مسلمون وأقباط «إيد واحدة» ضد الاستعمار


المصريون.. مسلمون وأقباط «إيد واحدة» ضد الاستعمار

  كتب   ميلاد حنا زكى    ٢٠/ ٥/ ٢٠١١
منذ الفتح العربى لمصر، لم يعرف المصريون أى شكل من أشكال التمييز بين المسيحيين والمسلمين، وإن كانت العلاقات بين عنصرى الأمة تتغير حسب كل عصر، ففى العصر الفاطمى اهتم الفاطميون ببناء المساجد والقصور عن طريق الأقباط الذين تولوا جمع الضرائب وأظهروا امتنانهم لكل المسلمين بالتسامح وتحسين أسلوب التعامل معهم، وكان ذلك أول ظهور حركات الوحدة الوطنية.
وتصدى المصريون جميعًا، أقباطاً ومسلمين، للحملة الصليبية التى ادعى الغرب أنها تأتى لحماية الأقباط والقدس، وعندما جاء نابليون فى ١٧٩٨ إلى مصر غازياً ومعلناً نفسه حامياً للإسلام مدافعاً عنه، لم يستطع التفرقة بين المصريين، وبعد ثورة القاهرة ضد الفرنسيين لعب «كليبر» بنفس فكر نابليون بالتقرب من الأقباط، وقرر أن يفرق الأمة عن طريق استثناء فرض الضرائب على الأقباط، إلا أنه سرعان ما استوعب المسلمون اللعبة التى كان يلعبها «كليبر» للتفرقة، ليعلنوا أنهم أمة واحدة، حتى استطاعوا مع بعضهم أن يتحرروا من الحملة الفرنسية.
ومع تولى محمد على حكم مصر، علم جيداً أنه لكى ينهض بهذه الأمة يجب عليه تقوية الترابط بين الأقباط والمسلمين، وعمل على تشجيع إرهاصات القومية المصرية التى كانت فى الواقع بمثابة ميلاد للدولة العلمانية فى مصر الحديثة، فعندما توسع فى بناء القلاع والمساجد، لم يرفض فى المقابل أى طلب من أجل بناء كنيسة جديدة، وفى عهده لأول مرة ينعم لقب بك على باسيليوس غالى، كما منح الأقباط جميع التسهيلات الضرورية للحج إلى الأراضى المقدسة، كما ألغى الزى الرسمى الذى كان مفروضًا على الأقباط ارتداؤه.
ولأول مرة، اتخذ محمد على مستشارين من الأقباط، وعندما تولى سعيد باشا السلطة فى البلاد، اعتمد على سياسة أبيه فى عدم التفرقة بين عنصرى الأمة، وهيأ للجميع فرص تولى مناصب فى الحكومة والترقى بالجيش، حتى إنه قرر السماح للأقباط بالدخول فى الخدمة العسكرية فى الجيش المصرى، وألغى فى سنة ١٨٥٥ ضريبة «الجزية» على غير المسلمين، ليزيد من تقرب الشعب، ويصبح أمة واحدة، كما عين حاكماً مسيحياً على «مصوع» بالسودان.


ومع تولى «إسماعيل» الحكم لم يختلف كثيرا عن نهج محمد على وسعيد باشا إلا أنه رأى لتحقيق هدفه جعل مصر قطعة من أوروبا، ولهذا أعلن تأييده ودعمه المالى للمدارس القبطية، كما كان ينظر إلى ما يشكو منه الأقباط ويحققه، حتى إنه عين عدداً من القضاة الأقباط فى المحاكم وأعطى الأقباط سنة ١٨٦٦ الحق فى أن يصبحوا أعضاء فى مجلس شورى النواب (أول برلمان مصرى) ومنذ ذلك الوقت ظهر إلى الوجود ما يمكن أن يسمى الأمة المصرية بالمفهوم الحديث لتفرق وتميز بين المصريين المسلمين والأقباط من ناحية والأجانب الآخرين مثل الأتراك والأرمن من ناحية أخرى، وأنعم إسماعيل باشا على سبيل المثال بلقب الباشوية على أول مسيحى وهو الأرمنى نوبار.
ومن الشخصيات التى ظهرت فى ذلك الوقت واستغلت العلاقة الطيبة للخديو إسماعيل بكل أفراد الشعب هو بطرس غالى الذى توسل للخديو بأن يوافق على إنشاء المجلس الملى حتى يساعد رجال الدين فى دفع عجلة الإصلاح فى المجتمع القبطى والمصرى، وبالفعل وافق الخديو وصدر مرسوم فى ١٥ فبراير ١٨٧٤ يقضى بإنشاء هذا المجلس، ويمكن القول إن محمد على وخلفاءه ساعدوا على تطور العلاقات بين جميع أفراد الشعب المصرى لكى يصبح أمة واحدة، وتؤكد ذلك المدارس القبطية التى كان يتخرج فيها جيل من الأقباط والمسلمين، كان من بينهم السياسيون والزعماء والوزراء، ومنهم عبدالخالق ثروت وحسين رشدى.
ومع الاحتلال البريطانى لمصر أصبح اللورد كرومر مندوب بريطانيا السامى فى مصر، يتصيد المواقف والأحداث لكى يوقع بين الأقباط والمسلمين، ولعله فى النهاية عندما وجد أنه لا مجال للفرقة بين المصريين، قال عنها فى كتابه «مصر الحديثة»: «إن القبطى قد أصبح من قمة رأسه إلى أخمص قدمه فى عاداته ولغته وروحه كالمسلم تماماً».
وفى عام ١٩٠٨ تم تعيين بطرس غالى باشا أول قبطى رئيسا للوزراء، وفى عهده قدم إسهامات كبيرة فى تنظيم الأقباط ودعم وحدتهم مع المسلمين، إذ قام على سبيل المثال بإنشاء الجمعية الخيرية القبطية، ودعا كلاً من الشيخ محمد عبده، وعبدالله النديم «خطيب الحركة العرابية» لحضور حفل الافتتاح، حيث ألقيا خطابين رائعين، يؤكدان وحدة الأمة المصرية، أقباطاً ومسلمين. وعندما طرد الخديو عباس الشيخ سليم البشرى، شيخ الأزهر، قام بطرس غالى بزيارته وأعلن تأييده له.
ويذكر كتاب «الأقباط فى السياسة المصرية» للدكتور مصطفى الفقى، أنه عند بداية القرن العشرين فى مصر ظهرت مساهمة مصطفى كامل فى الحركة الوطنية المصرية، وأبرز عناصرها تلك التى تضمنت محاولته احتواء كل المسلمين والأقباط فى حزبه، فضمت اللجنة التنفيذية لحزبه شخصين قبطيين هما ويصا واصف، ومرقص حنا، كما أعلن مصطفى كامل فى إحدى خطبه أن المسلمين والأقباط شعب واحد، تربطهم وتوثق فيما بينهم كل الوشائج، وأنه لا يوجد أى سبب أو مبرر للفصل بينهم، وبعد وفاة مصطفى كامل سنة ١٩٠٨ فقدت الحركة الوطنية المصرية حيويتها، كما خمد الحماس الوطنى، وكانت الأعوام العشرة التى أعقبت وفاة مصطفى كامل حتى عام ١٩١٨ بمثابة مرحلة انتظار وترقب، وهى أيضاً سنوات العلاقات الحساسة بين المسلمين والأقباط ويمكن اعتبار تلك الأعوام بمثابة الفترة التحضيرية لترابط جميع فئات الشعب المصرى فى ثورة ١٩١٩، ومن هذه الأحداث التحضيرية محاولة الاغتيال التى تبناها القبطى عريان يوسف سعد ضد القبطى يوسف وهبة باشا، خوفاً من أن يغتال بأيدى أحد المصريين المسلمين، ويستغل الاحتلال هذه الحركة لإشعال فتنة طائفية.

وفى عام ١٩١٨ خطرت لسعد زغلول فكرة تأليف الوفد المصرى للدفاع عن قضية مصر، وحتى يتم ترابط كل الأقباط والمسلمين، طلب سعد من الأقباط تمثيل أحد منهم فرشحوا ثلاثة أسماء: واصف بطرس غالى، وسينوت حنا، وجورج خياط، وأدى الثلاثة القسم أمام سعد زغلول، ويؤكد الوحدة بين الأمة ما ذكر فى كتاب «أقباط ومسلمون» للدكتور جاك تاجر، عندما عبر سعد زغلول عن ثقته واعتزازه برؤيته لرفاقه الأقباط يحيطون به جنباً إلى جنب مع إخوتهم الوطنيين المسلمين، وظهر ذلك عندما تم نفى سعد زغلول فى مالطة ومعه جورج خياط، وهناك استفسر «خياط» منه عن الدور القبطى فى الحركة السياسية والوطنية، فأجابه سعد زغلول قائلاً له «إن الأقباط مثل المسلمين لهم نفس الحقوق، وعليهم نفس الواجبات، فالمصريون جميعاً سواء».
وتلاحم كل فئات الشعب فى ثورة ١٩١٩ وأفرزت شعارات تقدمية تدل على الوحدة الوطنية مثل «الدين لله والوطن للجميع» و«عاش الهلال مع الصليب».
وفى هذه الفترة كانت نظرة الأقباط لدورهم لا تختلف عن نظرة المسلمين، إذ إن القوة الدافعة لحركة ١٩١٩، وروح سعد زغلول، سيطرت على مشاعر الجميع، وقد برزت فى هذا الجو شخصية مكرم عبيد الثائر الوطنى الذى تمتع بشعبية عظيمة بين المسلمين والأقباط على السواء، ولم يهتم قط بالعمل على أساس مصالح الأقلية التى انبثق منها، بل كان على العكس يقتبس من القرآن فى أحاديثه حتى قيل إن مكرم عبيد وواصف غالى، من بين أكثر السياسيين الأقباط نجاحاً، ويميلان فى سلوكهما السياسى إلى التصرف بحماس يفوق حماس زملائهم المسلمين وبذلك تعلو مصر بالوحدة بين المسلمين والأقباط.
وفى عهد الملك فؤاد أصدر دستور ١٩٢٣ مؤكداً المساواة التامة بين عنصرى الأمة، وجاء الملك فاروق ليكمل المسيرة ويؤكد ترابط الشعب من خلال دعمه وزياراته لمدراس الأقباط الكبرى وافتتح العديد منها، وفى عهد الرئيس محمد نجيب كان شعار الدولة المئذنة بجوار المنارة، وفى عهد جمال عبدالناصر كانت علاقات المودة ممثلة فى البابا كيرلس السادس، وكان الرئيس الراحل يزور البطريركية فى كل المناسبات، وساهم فى بناء وتعمير دير مارمينا بمريوط، وبناء الكاتدرائية الكبرى ووضع لها حجر الأساس.
وفى عهد أنور السادات، كانت البداية مضيئة، حتى ظهرت حوادث عدة منها حادث الزاوية الحمراء وحادث حرق كنيسة الخانكة، ولكن رغم شراسة الأزمة إلا أن روابط الوحدة الوطنية كانت أقوى من تلك المحنة والفتنة، حيث برزت فيها أخلاق مصر الأصيلة وظهرت محبة كثير من العائلات الإسلامية فى حماية الأقباط من الاعتداءات القائمة حتى عبرت المحنة بسلام ولاتزال.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

«برج القاهرة».. 50 عاماً على أكبر فشل لـ«المخابرات الأمريكية»

فى ذكراها المئوية.. رحلة للخلف: الحرب العالمية الأولى 4 سنوات «خراب» فى مصر

السواد يعم "الفيس بوك" و"تويتر" والبعض يرفعون شعار '' الهلال مع الصليب''