فى ذكراها المئوية.. رحلة للخلف: الحرب العالمية الأولى 4 سنوات «خراب» فى مصر
فى ذكراها المئوية.. رحلة للخلف: الحرب العالمية الأولى 4 سنوات «خراب» فى مصر
أعد الملف : ميلاد حنا
مصر فى الحرب العالمية الأولى، معنى له مغزاه الواسع والمتشعب، وبات الكشف عن الجوانب المهملة من ذلك التاريخ أمرا ملحا، حيث اجتاحت البلاد حالة من الرعب فى المدن والضواحى، وانتظر الناس قدوم الأجنبى من كل اتجاه، وقاموا بحفر الخنادق فى مدن القناة، وظل الجنود فى أبراج المراقبة على الحدود ينتظرون، ولا ينامون، استعدادا للموت دفاعا عن الوطن، وأقيمت المآتم وانتشر العويل على أولئك الجنود الذين يغادرون البلاد، بلا رجعة، إلى جانب الآلاف الذين استقبلتهم المستشفيات من جرحى الحرب، هكذا كان حال مصر والمصريين.
مصر الجديدة معسكر للقوات البريطانية أثناء الحرب |
وتحولت البلاد إلى معسكر للقوات الإنجليزية على مدى 4 سنوات هى زمن الحرب التى تكبدنا فيها خسائر بشرية ومادية دون ذنب، وتقول الأرقام إن نحو مليون جندى مصرى شاركوا فيها، وتكاليفها تخطت 3 ملايين جنيه بأرقام ذلك الزمن، لذا انتشر الكساد وعم الفقر الأرجاء، وتغيرت خارطة العالم، لتسقط 4 إمبراطوريات هى: «العثمانية والألمانية والروسية والنمساوية المجرية».
وأدت تلك الحرب إلى عالم جديد مختلف، وحصيلة ثقيلة من المتغيرات والنتائج التى انعكست على دول العالم وقاراته، ولعل أبرزها اتفاقية «سايكس بيكو» التى قسمت المنطقة العربية واتفاقية «سان ريمو» التى وزعت مناطق النفوذ بين القوى الاستعمارية الجديدة.
«المصرى اليوم» ترصد فى رحلة للوراء، حالة البلاد والعباد وما عاشوه أثناء تلك الحرب التى تحتفل القوات المسلحة بمئويتها غدا الثلاثاء، بحضور قادة الجيش وبعض أهالى الجنود الذين استشهدوا فى الحرب، فيما زار وفد مصرى بلجيكا لرفع العلم على مقابر الجنود المصريين الذين دفنوا هناك.
مصر «كامب إنجليزى» فى الحرب العالمية الأولى
عندما قامت الحرب كانت مصر تحت النفوذ الإنجليزى، وبالتالى دخلت طرفا فى المعارك، وكانت معسكرا لقوات الاحتلال والحلفاء، وذلك نظرا لموقعها الاستراتيجى ووجود قناة السويس التى تمثل الشريان الحيوى للإمبراطورية البريطانية.
وراحت إنجلترا توالى استعداداتها داخل مصر، فأمرت بإقامة الخنادق، واهتمت بمدن الساحل وعززت داخل مواقع جنودها فى النقط الحربية والشواطئ، وشددت المراقبة على السواحل بالإسكندرية التى أصبحت قاعدة لصد العدو، ونصبت مدفعا بقرب رأس التين موجهة فوهته إلى المدينة فتضاعف الرعب والذعر بين أهل المدينة وضواحيها حسبما ذكرت الأهرام يوم 8 أغسطس 1914.
وعسكر الجنود الإنجليز فى أبوقير ورشيد وخضعت المدن كلها لإنجلترا التى حولت جزءًا منها إلى معسكرات لجيوشها، وأصبحت مصر قاعدة كبيرة للعمليات الحربية، وأدخلت بورسعيد والإسماعيلية والسويس فى الحرب. وقيدت حركات الأهالى فى المنطقة، وخضعت لرقابة عسكرية صارمة، وتبع ذلك إصدار التعليمات الواجب على المصريين اتخاذها أثناء الغارات، فكان عليهم إقفال أبواب المنازل والنوافذ من غروب الشمس حتى شروقها وإظلام الأماكن العامة والخاصة.
ووصف ديفيد لويد جورج، رئيس وزراء بريطانيا فى الحرب، هذه الحالة يقول «عندما حل عام 1916 كنا قد حولنا دلتا النيل إلى معسكر مسلح»، ولم يراع فى ذلك أى اعتبار إلا للمحاربين، وكانت قناة السويس خط مواصلات الحلفاء وقاعدة معسكراتها فى الإسماعيلية، والقنطرة تسكنها القوات الأسترالية والهندية والبريطانية، أما القاهرة والإسكندرية فكانتا المكانين اللذين تخصان فيهما القوات وقت إجازتها، وكانت الحكومة المدنية تسهر على راحتها.
وتكبدت مصر وحدها نفقات وتكاليف هذه المعسكرات وبلغ اعتماد الحكومة المصرية لإنشاء معسكرات وفرق الهجانة حوالى 11 ألفا و555 جنيها، ومنذ نشوب الحرب بلغت نفقات الحكومة المصرية لحساب الحكومة البريطانية ولأغراضها العسكرية حتى نهايتها نحو 3 ملايين جنيه. وعلق سعد زغلول على هذه الميزانية قائلاً: «لم يمر على مصر زمان كانت الأمور فيها أكثر فوضى من هذا الزمن لم تكن الحكومة محاربة للأمة فى وقت أكثر من محاربتها لها الآن، لأنها سلبت منها 3 ملايين قدمتها للحكومة الإنجليزية».
واعترف السير ريجنالد وينغيت، المندوب السامى لبريطانيا فى مصر، فى خطاب للسطان فؤاد: «أنه لولا تعاون المصريين مع الإنجليز لم يكن هناك نجاح للحرب، وبفضل تعاون ومجهود كل طبقات الشعب أمكن لإنجلترا الانتصار»، ونشرت صحيفة التايمز تقول «نفخر بمصر التى قدمت مئات الألوف من أبنائها لمعاونة الحلفاء، وقدمت أيضا جزءا كبيرا من محاصيلها لهم فى الوقت الذى تعانى فيه من متاعب العيش والغلاء».
وانتهت الحرب بعد أن استغلت إنجلترا موقع مصر وسيطرت على المصريين أنفسهم لخدمتها وخدمة حلفائها، وساهمت مصر بمجهود حربى كبير فى هذه الحرب لدرجة إن قواد إنجلترا أنفسهم أشادوا بهذه المساعدة، وعلى الرغم من إعلان إنجلترا فى الأيام الأولى للحرب بأن مصر لن تتحمل شيئا من أعباء هذه الحرب، إلا أن الواقع أنها استغلت مصر بمن عليها أسوأ استغلال، وأكدت السجلات البريطانية أن مصر شاركت فى تلك الحرب بمليون ومائتى ألف جندى فى وقت كان تعدادها يقدر فيه بـ ١٤مليون نسمة.
مليون و200 ألف جندى مصرى مجبرون على خدمة بريطانيا في الحرب العالمية الأولى
انتشر الرعب فى نفوس البسطاء بكل ضواحى البلاد بسبب التجنيد الإجبارى للشباب الذين يتم استخدامهم فى حرب «لا ناقة لهم فيها ولا جمل» وكان الناس يعلمون أن من يتم تجنيده لن يعود، وجند الإنجليز الآلاف من الفلاحين والشباب من كل مكان، لذا خيم الحزن على البلاد، وكانت تلك السخرة الإجبارية سبباً من أسباب قيام ثورة 1919.
ونشرت صحيفة «رائد العمال» الإنجليزية فى 3 إبريل عام 1919 تقريراً يقول: «كان الكرباج هو الوسيلة الوحيدة لتسخيرهم، لا خيام ولا تغذية، فضلاً عن قلة الغطاء، والأمراض التى تركوها تفترسهم افتراساً، لقد كانوا يموتون كالذباب فى الصحراء، وكثيراً ما رفض السماح لهؤلاء المجندين بالعودة إلى بلادهم حتى بعد انتهاء مدة خدمتهم».
ويقول اللورد ملنر، فى تقرير له عن أسباب ثورة 1919:«إن المستشفيات التى كان يمرض فيها هؤلاء العمال لم تكن على ما يرام».
ويؤكد ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا السابق، أن الخدمة الطبية للفلاحين المصريين سواء فى فرقة العمال أو الجمالة كانت ناقصة وغير كافية.
ويكتب أحد الأطباء فى الحرب ويدعى «جست» فى صحيفة دايلى نيوز:«إنه لسوء تغذيتهم وملبسهم وعدم وجود مستشفيات كافية ورداءة أحوالها كانت نسبة الوفيات بينهم عالية جدا».
ويشير المؤرخ عبدالرحمن الرافعى إلى مأساة المصريين قائلا: «كانوا يعاملون معاملة المعتقلين وما هم بالمذنبين، يربطون بالحبال ويساقون كالأغنام ويقام عليهم الحراس وينقلون بالقاطرات فى مركبات الحيوانات ويعاملون أسوأ معاملة ولا يعتنى أحد بصحتهم ولا بغذائهم وكانوا يوعدون بأن يستخدموا لمدة محددة ثم تمد على الرغم منهم، ومات كثيرون منهم فى ميادين القتال أو فى الصحراء بسيناء والعريش أو فى العراق وفرنسا وأصيب كثير منهم بالأمراض والعاهات التى جعلتهم عاجزين عن العمل». ويقول الكاتب الأمريكى جورج كريل فى صحيفة «Legppe» فى 27 سبتمبر 1919: «لقد سيق مليون ومائتا ألف من المصريين إلى الخدمة فى فرقة العمال والنقل ومات هؤلاء المجندون التعساء كالذباب وكلما قضى منهم نفر وخلا بموتهم مكان، ساق الكرباج الآلاف غيرهم ليحلوا محلهم، ودم هؤلاء الرجال هو الذى يجرى بين مصر وإنجلترا اليوم».
وتروى جريدة المقطم عن الظلم الذى قاساه المصريون فى الخارج قائلة «الإصابات تعددت فى فرنسا من جراء الظروف المناخية القاسية لتراكم الثلوج وعدم تحمل المصريين لها، كذلك ارتفعت نسبة الوفيات بينهم فى كثير من الدول، وانتشرت الكوليرا، لدرجة أنهم حينما عادوا إلى مصر نقلوها معهم، ومات الكثير بسببها».
وما كان من الحكومة المصرية إلا أنها أصدرت فى 29 يونيو 1921 قراراً بأنها ستصرف مكافآت ومعاشات لمن أصيبوا بجرح وعاهات مستديمة وبعجز تام أو جزئى عن العمل، وكانت المبالغ بسيطة للغاية.
ومن اللافت للنظر أن أهل مصر من ذوى اليسر قدموا خدماتهم للإنجليز عن طريق دفع الإعانات للصليب الأحمر وأهملوا بنى جلدتهم الأمر الذى جعل كاتبة إنجليزية تقول:«لقد عرفنا من مزايا أهل مصر أنهم إذا دعوا لمبرة عامة يظهرون بمظهر الكرم ويكتتبون بسخاء للأعمال الخيرية النافعة رغم بؤسهم».
المصريون قتلهم الإهمال بالخارج في الحرب العالمية الأولى.. والتقصير الطبى بالداخل
ساعدت الحكومة المصرية على إيجاد المستشفيات لاستقبال جرحى الحرب ووضعت تحت تصرف الإنجليز مبانى كثيرة لتكون مستشفيات للجنود، رغم إهمال المئات الذين أصيبوا بالخارج ولم يجدوا من يقف إلى جانبهم ومات منهم الكثيرون.
وقدم الأطباء المصريون خدماتهم للقوات البريطانية وتواجدوا على الحدود، وفى جميع المدن وجدت هذه المستشفيات، وازدادت فى منطقة القناة (الإسماعيلية والقنطرة وبورتوفيق وبورسعيد ورومانة والمحمدية) حيث الجبهة الحربية، وتحولت المدارس إلى مستشفيات فى كل مكان واستخدمت بعض الفنادق كمستشفيات، وأشهرها «هليوبولس بلاس» مقر الرئاسى الحالى الذى تحول لاستقبال الجرحى الإستراليين.
وقامت السكك الحديدية المصرية بنصيب وافر من تخفيف آلام الجرحى والمصابين بميادين القتال فأعدت قطارات خاصة مجهزة بكافة المعدات التى تتطلبها راحة المرضى، وكانت هذه القطارات فى نظامها واستعدادها كمستشفيات كاملة غير أنها متنقلة، وخصصت هذه القطارات للمرضى والمصابين القادمين من ميدان غاليبون والميادين الأخرى، ونقلهم من ميناء الإسكندرية إلى فندق هليوبولس مباشرة، حيث يتحول سير القطار على خط ترام مصر الجديدة لتوصيل الجرحى إلى مستشفيات الجيش بهليوبولس.
وخصص كازينو سان استيفانو كمستشفى عسكرى، لإنزال المرضى والجرحى الهنود، وعلى طول النيل حتى أسوان أصبحت الفنادق الفاخرة مستشفيات عسكرية إضافة إلى المستشفيات الأصلية ومنها مثلا أعطت إسبتالية الجيش بالقاهرة بكامل معداتها إلى فرقة النيوزيلانديين وقدمت جمعية الهلال الأحمر المصرية قطارات مجهزة بكل ما يلزم لراحة الجرحى.
وذكر مراسل التايمز فى القاهرة آنذاك إن مصر تلقت آلافا عديدة من جرحى البريطانيين ومرضاهم الذين استفادوا من مناخها الصحى ومن كرامة المصريين فى المساعدة.
وقدمت الجمعية أموالا فى إقامة مستشفيات وساعدت الحكومة المصرية الصليب الأحمر فى حث الناس بالتبرعات ورحبت السلطات الإنجليزية بذلك الأمر.
وراح السير مكماهون نائب الملك يخطب فى حفلتين بالقاهرة والإسكندرية وساعده سعد زغلول فى إلقاء كلمة ووصل الاكتتاب إلى حوالى 100 ألف جنيه، وماساعد على ذلك الإقبال هو الرهبة من الأحكام العرفية وتنفيذها، وكان المصريون أنفسهم آنذاك فى حاجة ماسة إلى المعونة، وليس من العدل ولا الإنسانية أن يحض الناس على التبرع لجرحى الإنجليز فى حين أن فقراء الأمة من العمال العاطلين وغيرهم كانوا على حالة كبيرة من الجوع والبؤس.
واتبعت الحكومة المصرية طريقة الإجبار لتدير الأموال اللازمة التى لم يتيسر الحصول عليها بطريقة التبرع واستعملت وسائل الإكراه، ففرضت على كل قرية أن تدفع مبلغا معينا من المال وبلغ ما دفعته مصر للصليب الأحمر 320 ألف جنيه جمعت قسراً.
انهيار الدولة العثمانية وتقسيم المنطقة العربية
كانت الأراضى التى احتلتها الإمبراطورية العثمانية من أهم الأسباب التى قامت عليها الحرب، ومنذ بدأت بريطانيا تفرض سلطتها الفعلية على مصر وأصبحت الحاكم الحقيقى للبلاد، وأعطتها الحرب فرصة للإطاحة بمن يناوئها فى سياستها، فقررت عزل الخديو عباس، ووضع البلاد تحت حمايتها وأنهت السيادة العثمانية، وكانت تركيا منذ مؤتمر برلين 1878 فى أحضان ألمانيا وتخلت عن بريطانيا التى أطاحت بسيطرتها على مصر، فيما رحبت ألمانيا بهذه الصلة وصارت تغدق على تركيا بالإعانات وتمد لها خطوط السكك الحديدية بأموالها وتولى الجيش الألمانى تدريب الجيش التركى.
ورغم أن تركيا كانت ملتزمة باتفاقية 1871 التى تمنع مرور السفن الحربية فى زمن الحرب إلا أنها تخلت عن الاتفاق وسمحت للسفن الألمانية الحربية بالمرور بالبحر الأسود لضرب الموانئ الروسية، واعتبر الحلفاء هذا تأييدا واضحا لأعدائهم، لذا أعلنت بريطانيا وروسيا وفرنسا الحرب على تركيا فى نوفمبر 1914.
وشكل التحالف السرى بين تركيا وألمانيا تهديداً للمستعمرات البريطانية فى الهند والشرق وتحدياً للنفوذ الروسى فى أرمينيا، وكان الهدف الأساسى للعثمانيين هو استرجاع أراضى شرق الأناضول التى استولت عليها روسيا خلال الحرب الروسية العثمانية (1877 - 1878).
وفى هذا الوقت كانت المناطق العربية فى آسيا وشمال أفريقيا تحت الحكم العثمانى، إلا أن نزعات التحرر من السيطرة التركية بدأت فى الظهور، وكان الأرمن من بين الشعوب التى كان لها تطلعات بإنشاء وطن قومى، وفى عام 1915 قامت جيوش الإمبراطورية الروسية بالزحف نحو الدولة العثمانية واحتلت أكثر من منطقة بمباركة ومساعدة أرمينية، لذا قام الأتراك بالتعاون مع عشائر كردية بإبادة مئات القرى الأرمينية شرقى البلاد فى محاولة لتغيير ديمغرافية تلك المناطق لاعتقادهم بأن هؤلاء قد يتعاونون مع الروس والثوار الأرمن، فيما عرف آنذاك بـ«مذابح الأرمن».
ومات خلال حملات التهجير نحو 75% ممن هاجروا وترك الباقون فى صحارى بادية الشام.
وتراوح عدد القتل المتعمد والمنهجى للسكان الأرمن من قبل الإمبراطورية العثمانية خلال وبعد الحرب العالمية الأولى، ما بين مليون ومليون ونصف المليون نسمة.
وأدى دخول العثمانيين الحرب وحالة العداء التى ظهرت من قبل الأتراك نحو بعض المجتمعات العربية إلى إشعال الثورة العربية الكبرى التى بدأها الشريف حسين بدعم وتحريض بريطانى على أن تعطيهم بريطانيا منطقة بلاد الشام، إلا أنها غدرت بهم – كعادتها – واتفقت مع فرنسا على تقسيم بلاد الشام باتفاقية «سايكس بيكو».
وبانتهاء الحرب العالمية الأولى انتهى الحكم العثمانى وانتهت الخلافة الإسلامية، وتوزعت دول ما بين بريطانيا وفرنسا ووقعت فلسطين تحت الحكم البريطانى عام 1920.
تعليقات
إرسال تعليق