الشيخ محمد رفعت .. أكثر أصوات المقرئين ثراء...مات فقيرا
الشيخ محمد رفعت
أكثر أصوات المقرئين ثراء...مات فقيرا
إعداد:مريم مسعد,ميلاد حنا
عندما توفي الشيخ محمد رفعت أصدرت جريدة المصري أكثر الجرائد انتشارا في ذلك العصر علي صدر صفحتها الأولي عنوانا رئيسيا يقول 'سكت البلبل الصداح'.
قيل عنه...إذا أردت أحكام التلاوة فالشيخ محمود الحصري,وإذا أردت حلاوة الصوت فالشيخ عبد الباسط عبد الصمد,وإذا أردت النفس الطويل مع العذوبة فالشيخ مصطفي إسماعيل,وإذا أردت هؤلاء جميعا فالشيخ محمد رفعت.
نشأ الشيخ محمد رفعت في حي 'البغالة' بالسيدة زينب في عام 1882م.ولما أكمل سنواته الأولي أحضره والده محمود بك الذي كان يعمل ضابطا بالبوليس المصري ليتعلم التلاوة في كتاب مسجد فاضل باشا بدرب الجماميز مثل أقرانه من المكفوفين.غير أن الشيخ رفعت تألق في مسجد فاضل حيث اعتاد التلاوة منطلقا بين عامة الناس والباعة الجائلين فاستمد منهم نبرات صوته فخرج مشحونا بالألم والأمل عنيفا كالمعارك التي خاضها الشعب...ومن هنا عرف بأنه 'صوت الشعب'.وقيل عنه إن دموع قلبه كانت تجري في نبرات صوته.
وعند قيام ثورة 1919 مثل سعد روح الشعب الصلبة,وسيد درويش راح يلحن صيحات الشعب السياسية ولحن الشيخ رفعت حياة الشعب الروحية.
ولعذوبة صوته كان الناس يفترشون الشوارع المحيطة بالمسجد كلما تلا.
ولم يكتف الشيخ رفعت بما لديه من موهبة بل تعمق في دراسة علم القراءات والموسيقي خاصة موسيقي بيتهوفن وموزارت وفاجنر,وذخرت مكتبته بعدد من الكلاسيكيات السيمفونية العالمية يقضي أسعد أوقاته في سماعها.
وتلألأ صوت الشيخ رفعت وسط جيل من رواد الموسيقي الشيخ أبو العلا محمد وعبده الحامولي وسيد درويش وكان أجره وقتها خمسين قرشا في الليلة,وكان صوته يأخذ ألباب الملايين في الأفراح والمآتم والسهرات,وأصبح رمزا لشهر رمضان الكريم فعند سماع تلاوته ينتقل الناس بأرواحهم إلي الأجواء الروحانية الرمضانية وهم في انتظار انطلاق مدفع الإفطار.
وعند البث الإذاعي الأول في مصر طلب الشيخ لافتتاح الإذاعة الحكومية بصوته في الساعة السادسة وأربعين دقيقة مساء نظير أجر قدره ثلاثة جنيهات,واستمرت التلاوة ربع ساعة علي الرغم من أنه كان مترددا في بادئ الأمر علي اعتبار أن تلاوة القرآن لا تليق مع عرض الأغاني إلا أنه وافق بعد استطلاع رأي عدد من العلماء والمشايخ في هذا الأمر وحصل علي فتوي تبيح تلاوته لينطلق صوته عبر الأثير ويدخل كل بيت بل ويمتد لإذاعات العالم كإذاعة برلين ولندن وباريس خلال الحرب العالمية الثانية من (1939-1945) وتنافست تلك الإذاعات علي الشيخ رفعت لافتتاح برامجها غير أنه اعتذر,كما رفض عرض أبخل وأغني رجل في العالم 'عثمان حيدر أباد' بأن يذهب للهند مقابل 15ألف جنيه,ولما رفض تم زيادة المبلغ إلي أن وصل إلي 45ألف جنيه غير أن الشيخ لم يهتز أمام هذا المبلغ بل أصر علي الاعتذار قائلا: 'أنا لا أبحث عن المال أبدا,فإن الدنيا كلها عرض زائل'.
عشق صوته كثير من غير المسلمين فقال عنه الفنان نجيب الريحاني إنه كان يستمع إليه حتي يبكي وإذا أطال الشيخ كان يتصل الفنان بالمسرح يطلب تأجيل رفع الستار حتي ينتهي الشيخ من تلاوته.
أما مكرم عبيد باشا فكان صديقا للشيخ ودائما ما كان يتباهي بأنه تعلم علي صوت الشيخ رفعت.
وأمام جامع فاضل باشا -الذي اشتهر بين عامة الناس بجامع الشيخ رفعت- كان الترام يمر بشارع درب الجماميز وكان سائقو الترام ومعظمهم من الأقباط يتوقفون برهة لملء آذانهم بمقتطفات من صوت الشيخ.ومن شهود مجالسه الفنان عبد الوهاب,وقال عنه إنه يتسم بالذكاء وخفة الدم وقدرته علي تقليد أصوات الباعة في نداءاتهم.
ولما ذاع صيته وانتشرت تلاوته قدم عدد من المقرئين شكوي للإذاعة في مارس 1938 مطالبين بمساواتهم في الأجر مع الشيخ رفعت وعدم تلقيبه وحده بـ'الأستاذ' وكانت المفاجأة التي تدل علي سماحة الشيخ بأن أيد مطالبهم ورحل عن الإذاعة,ولم تمر أيام قلائل حتي انهالت آلاف الرسائل تطلب عودته أغلبها من الأقباط...وبسبب الضغوط من محبيه عاد للإذاعة مواظبا علي التلاوة,وكان يتقاضي عن كل مرة أثني عشر جنيها.
وعرضت عليه وزارة الأوقاف نقله إلي أحد المساجد الشهيرة بالقاهرة يختارها بنفسه غير أنه اعتذر بأنه لا يستطيع مفارقة مسجد فاضل باشا الذي ألفه وألف ناسه.
وحدث أن طلبت منه إذاعة لندن تسجيل شريط مقابل مائة جنيه وخمسة جنيهات عن كل مرة يذاع فيها الشريط,غير أن المرض اشتد عليه خاصة مرض 'الزغطة' التي كانت تصيبه كلما جلس وأعاقته عن التلاوة,في تلك الأحداث الحزينة حصلت محطة الإذاعة المصرية علي نسخة من الشريط الذي سجل لمحطة لندن ودفعت خمسة جنيهات عن كل مرة يذاع فيها.وهذا المبلغ البسيط كان هو مورده من الإذاعة طوال فترة مرضه في منزله بشارع يحيي بن زيد بحي السيدة زينب.وحاول بعض أصدقائه محبيه جمع الأموال لمساعدته ولكنه أبي أن يكون ثقيلا علي الآخرين واكتفي بمعيشة بسيطة والاحتجاب عن الأنظار حتي قامت مجلة المصور بإجراء حوار معه سنة 1949وهو الأمر الذي هز مشاعر وقلوب المصريين وأسفر عن جمع 108جنيهات و25قرشا علي الرغم من أن الحوار لم يكن فيه إشارة إلي التبرع غير أن محبيه اشتاقوا إليه وحاولوا توصيل مشاعرهم بإرسال الهدايا والنقود والخطابات وكتب علي أحدها: 'لم نكن نعلم أن إمام المقرئين يعاني هذه الآلام'.
كما تأثرت الإذاعة بمرضه وقررت إذاعة شريط له مرتين أسبوعيا بعد أن كانت تذيع له مرة واحدة في الشهر.وفرح الشيخ محمد رفعت لكل تلك الأحاسيس الجميلة ولكنه رفض مطلقا قبول أي هدايا أو تبرعات مادية قائلا: 'عشت طول حياتي بكرامتي ويكفيني السؤال' علي الرغم من أن إيراده في ذلك الوقت لم يزد علي 32جنيها من إيراد الدكاكين التي يملكها في المنيرة وما يأتيه من الإذاعة فهو من قال عنه الشاعر فؤاد حداد:
أخضر علي طول المدد أخضر
يا طاهر الأحضان
أخضر كأني في النهار الدايم
مني السما المرفوعة فوق المداين
وفي التاسع من مايو 1950 نعي المذيع اللامع عبد الوهاب يوسف الشيخ رفعت إلي شعب مصر ولم يستطع أن يملك زمام نفسه فبكي أمام الميكروفون,وأسرع أنور العشري ليكمل قائلا: 'فقدنا اليوم صاحب الحنجرة الفريدة التي امتلكت قدرة فائقة علي إيصال أعذب وأنقي الأصوات إلي الناس'.
وهكذا عاش الشيخ محمد رفعت بريقا كالذهب قويا في صوته صابرا علي مرضه شاكرا كل من أحبه.
أكثر أصوات المقرئين ثراء...مات فقيرا
إعداد:مريم مسعد,ميلاد حنا
عندما توفي الشيخ محمد رفعت أصدرت جريدة المصري أكثر الجرائد انتشارا في ذلك العصر علي صدر صفحتها الأولي عنوانا رئيسيا يقول 'سكت البلبل الصداح'.
قيل عنه...إذا أردت أحكام التلاوة فالشيخ محمود الحصري,وإذا أردت حلاوة الصوت فالشيخ عبد الباسط عبد الصمد,وإذا أردت النفس الطويل مع العذوبة فالشيخ مصطفي إسماعيل,وإذا أردت هؤلاء جميعا فالشيخ محمد رفعت.
نشأ الشيخ محمد رفعت في حي 'البغالة' بالسيدة زينب في عام 1882م.ولما أكمل سنواته الأولي أحضره والده محمود بك الذي كان يعمل ضابطا بالبوليس المصري ليتعلم التلاوة في كتاب مسجد فاضل باشا بدرب الجماميز مثل أقرانه من المكفوفين.غير أن الشيخ رفعت تألق في مسجد فاضل حيث اعتاد التلاوة منطلقا بين عامة الناس والباعة الجائلين فاستمد منهم نبرات صوته فخرج مشحونا بالألم والأمل عنيفا كالمعارك التي خاضها الشعب...ومن هنا عرف بأنه 'صوت الشعب'.وقيل عنه إن دموع قلبه كانت تجري في نبرات صوته.
وعند قيام ثورة 1919 مثل سعد روح الشعب الصلبة,وسيد درويش راح يلحن صيحات الشعب السياسية ولحن الشيخ رفعت حياة الشعب الروحية.
ولعذوبة صوته كان الناس يفترشون الشوارع المحيطة بالمسجد كلما تلا.
ولم يكتف الشيخ رفعت بما لديه من موهبة بل تعمق في دراسة علم القراءات والموسيقي خاصة موسيقي بيتهوفن وموزارت وفاجنر,وذخرت مكتبته بعدد من الكلاسيكيات السيمفونية العالمية يقضي أسعد أوقاته في سماعها.
وتلألأ صوت الشيخ رفعت وسط جيل من رواد الموسيقي الشيخ أبو العلا محمد وعبده الحامولي وسيد درويش وكان أجره وقتها خمسين قرشا في الليلة,وكان صوته يأخذ ألباب الملايين في الأفراح والمآتم والسهرات,وأصبح رمزا لشهر رمضان الكريم فعند سماع تلاوته ينتقل الناس بأرواحهم إلي الأجواء الروحانية الرمضانية وهم في انتظار انطلاق مدفع الإفطار.
وعند البث الإذاعي الأول في مصر طلب الشيخ لافتتاح الإذاعة الحكومية بصوته في الساعة السادسة وأربعين دقيقة مساء نظير أجر قدره ثلاثة جنيهات,واستمرت التلاوة ربع ساعة علي الرغم من أنه كان مترددا في بادئ الأمر علي اعتبار أن تلاوة القرآن لا تليق مع عرض الأغاني إلا أنه وافق بعد استطلاع رأي عدد من العلماء والمشايخ في هذا الأمر وحصل علي فتوي تبيح تلاوته لينطلق صوته عبر الأثير ويدخل كل بيت بل ويمتد لإذاعات العالم كإذاعة برلين ولندن وباريس خلال الحرب العالمية الثانية من (1939-1945) وتنافست تلك الإذاعات علي الشيخ رفعت لافتتاح برامجها غير أنه اعتذر,كما رفض عرض أبخل وأغني رجل في العالم 'عثمان حيدر أباد' بأن يذهب للهند مقابل 15ألف جنيه,ولما رفض تم زيادة المبلغ إلي أن وصل إلي 45ألف جنيه غير أن الشيخ لم يهتز أمام هذا المبلغ بل أصر علي الاعتذار قائلا: 'أنا لا أبحث عن المال أبدا,فإن الدنيا كلها عرض زائل'.
عشق صوته كثير من غير المسلمين فقال عنه الفنان نجيب الريحاني إنه كان يستمع إليه حتي يبكي وإذا أطال الشيخ كان يتصل الفنان بالمسرح يطلب تأجيل رفع الستار حتي ينتهي الشيخ من تلاوته.
أما مكرم عبيد باشا فكان صديقا للشيخ ودائما ما كان يتباهي بأنه تعلم علي صوت الشيخ رفعت.
وأمام جامع فاضل باشا -الذي اشتهر بين عامة الناس بجامع الشيخ رفعت- كان الترام يمر بشارع درب الجماميز وكان سائقو الترام ومعظمهم من الأقباط يتوقفون برهة لملء آذانهم بمقتطفات من صوت الشيخ.ومن شهود مجالسه الفنان عبد الوهاب,وقال عنه إنه يتسم بالذكاء وخفة الدم وقدرته علي تقليد أصوات الباعة في نداءاتهم.
ولما ذاع صيته وانتشرت تلاوته قدم عدد من المقرئين شكوي للإذاعة في مارس 1938 مطالبين بمساواتهم في الأجر مع الشيخ رفعت وعدم تلقيبه وحده بـ'الأستاذ' وكانت المفاجأة التي تدل علي سماحة الشيخ بأن أيد مطالبهم ورحل عن الإذاعة,ولم تمر أيام قلائل حتي انهالت آلاف الرسائل تطلب عودته أغلبها من الأقباط...وبسبب الضغوط من محبيه عاد للإذاعة مواظبا علي التلاوة,وكان يتقاضي عن كل مرة أثني عشر جنيها.
وعرضت عليه وزارة الأوقاف نقله إلي أحد المساجد الشهيرة بالقاهرة يختارها بنفسه غير أنه اعتذر بأنه لا يستطيع مفارقة مسجد فاضل باشا الذي ألفه وألف ناسه.
وحدث أن طلبت منه إذاعة لندن تسجيل شريط مقابل مائة جنيه وخمسة جنيهات عن كل مرة يذاع فيها الشريط,غير أن المرض اشتد عليه خاصة مرض 'الزغطة' التي كانت تصيبه كلما جلس وأعاقته عن التلاوة,في تلك الأحداث الحزينة حصلت محطة الإذاعة المصرية علي نسخة من الشريط الذي سجل لمحطة لندن ودفعت خمسة جنيهات عن كل مرة يذاع فيها.وهذا المبلغ البسيط كان هو مورده من الإذاعة طوال فترة مرضه في منزله بشارع يحيي بن زيد بحي السيدة زينب.وحاول بعض أصدقائه محبيه جمع الأموال لمساعدته ولكنه أبي أن يكون ثقيلا علي الآخرين واكتفي بمعيشة بسيطة والاحتجاب عن الأنظار حتي قامت مجلة المصور بإجراء حوار معه سنة 1949وهو الأمر الذي هز مشاعر وقلوب المصريين وأسفر عن جمع 108جنيهات و25قرشا علي الرغم من أن الحوار لم يكن فيه إشارة إلي التبرع غير أن محبيه اشتاقوا إليه وحاولوا توصيل مشاعرهم بإرسال الهدايا والنقود والخطابات وكتب علي أحدها: 'لم نكن نعلم أن إمام المقرئين يعاني هذه الآلام'.
كما تأثرت الإذاعة بمرضه وقررت إذاعة شريط له مرتين أسبوعيا بعد أن كانت تذيع له مرة واحدة في الشهر.وفرح الشيخ محمد رفعت لكل تلك الأحاسيس الجميلة ولكنه رفض مطلقا قبول أي هدايا أو تبرعات مادية قائلا: 'عشت طول حياتي بكرامتي ويكفيني السؤال' علي الرغم من أن إيراده في ذلك الوقت لم يزد علي 32جنيها من إيراد الدكاكين التي يملكها في المنيرة وما يأتيه من الإذاعة فهو من قال عنه الشاعر فؤاد حداد:
أخضر علي طول المدد أخضر
يا طاهر الأحضان
أخضر كأني في النهار الدايم
مني السما المرفوعة فوق المداين
وفي التاسع من مايو 1950 نعي المذيع اللامع عبد الوهاب يوسف الشيخ رفعت إلي شعب مصر ولم يستطع أن يملك زمام نفسه فبكي أمام الميكروفون,وأسرع أنور العشري ليكمل قائلا: 'فقدنا اليوم صاحب الحنجرة الفريدة التي امتلكت قدرة فائقة علي إيصال أعذب وأنقي الأصوات إلي الناس'.
وهكذا عاش الشيخ محمد رفعت بريقا كالذهب قويا في صوته صابرا علي مرضه شاكرا كل من أحبه.
تعليقات
إرسال تعليق